نجاة الذهبي السبت، 22 فبراير، 2020
المصدر: العرب
شارك الفنان التشكيلي التونسي وسام بن حسين في معرض جماعي يحمل عنوان « أطياف » صحبة ثلاثة فنانين تونسيين أخرين ذوي أساليب وتقنيات فنية مختلفة، حيث تحمل أعماله نزوعا نحو الترميز والإيحاء المستوحى من « الأحلام » والخيال والتي ترسم عوالم حالمة بشخوص وكائنات أسطوريّة.
وأفتتح المعرض مؤخرا في رواق « إلكسندر روبتزوف » للفن التشكيلي بتونس العاصمة، بمشاركة الفنان طاهر المقدميني ووسام بن حسين وشهرزاد الفقيه وفاطمة الفريخة.
وارتأت المديرة الفنيّة للرواق أن تجمع هؤلاء حول موضوع الجسد، ليقدّم المقدميني أعمالا تعالج صور القبح والتحوّل البشريّ تتشابه إلى حدّ كبير مع أعمال الفنّان الايرلندي فرانسيس بيكون، بينما يبني وسام بن حسين عوالم حالمة بشخوص وكائنات أسطوريّة، كما تُصَوِّر الهيئات التي ترسمها شهرزاد الفقيه عالمنا المسوخيّ المتحوّل بكل تناقضاته مستعملة أحبارها السوداء والرمادية، أمّا فاطمة الفريخة فلا تزال تتحسّس طريقها في التصوير عبر تقديم بورتريهات لوجوه أنثويّة متراكبة وصارخة.
« لا أتصوّر نفسي أستيقظ كلّ صباح لأنظر إلى كل هذا الحزن والاكتئاب. أريد أن أرى البهجة معلّقة على الحيطان حتى وإن كان كلّ العالم ينزف »، كنت أستمع إلى أحد الحاضرات وهي تتحدّث عن أعمال الرسّام التونسي وسام بن حسين أثناء الافتتاح. وفي الواقع انتابتني خيبة شديدة إزاء واقع الفنّ الحقيقيّ هذه الأيّام، وأمام الاستهجان الذي يمكن أن تناله تجربة إبداعية مميّزة وفريدة مثل تجربة هذا الفنّان وسط فهم سطحيّ وعام للجمال والتذوّق والمتعة. جعلني ذلك أستفيق من متعتي السابقة مع الكائنات التي يرسمها وسام وأنتبه إلى العزلة التي يفرضها الذوق العام على الفنّ والفنّانين مقابل متطلبات سوق الفنّ، ذلك المصطلح المبهم والهلاميّ والذي يطول فيه الحديث وربما نخوض فيه في وقت آخر.
ذكرتني الحادثة بمقولة أرسطو التالية « ليست مهمّة الفنّ تقديم الشكل الخارجي للأشياء، وإنّما تقديم المدلول الداخليّ لها »، فمسألة السؤال حول التوصّل إلى إدراك مبتغى العمل الإبداعي كالعمل الذي يقدّمه وسام بن حسين والاستمتاع به من عدمه مسألة لا تتوقف على شكل العمل الفني وتقنياته (كحال المتلقيّة التي وصفت أعماله بالحزينة)، بل على شكل التساؤلات التي يطرحها المتلقي حول العمل، ذلك الفضول الأبديّ الذي يجعلنا نطرح تساؤلاتنا حول « الكوميديا الإلهية » التي تحدّث عنها الأدب والفنّ للإشارة إلى كلّ ما يمنعنا من إدراك « التجلّي النهائي ». ولكن الحقيقة الحزينة فعلا أن الفنّان وحده من يطرح ذلك السؤال المؤرق، بل يصل الأمر إلى أكثر من ذلك حيث يفرض الواقع عزلته الفكريّة على نخبة قليلة من دارسي الفنّ والباحثين فيه، فــ »الفنّ لا يعمل بديموقراطيّة، -تقول الكاتبة الأميركيّة فلانري أوكونور- إنّه ليس حقّ الجميع، هو فقط لأولئك الذين سيتحملون عبء خوضه من أجل فهمه ».
دعنا من كلّ ذلك ولنتحدّث عن مضمون العمل الذي يشتغل عليه الفنّان وسام بن حسين، فمنذ بداياته اهتمّ بتمثّلات الجسد وإشكالات حضوره وسط العالم، ليقدّم تجربة فريدة من نوعها وسط الساحة الفنيّة التونسيّة المعاصرة. إذ يعمل الفنّان على المتناقضات الإيروسيّة التي تلتحم بموضوع تصوير الجسد، فبين المسوخ التي يراها البعض في أعماله والملائكة التي يتحدّث عنها البعض الآخر تتراءى لنا معضلة الفنّان نفسه في رؤية « المتحوّل » الأسطوريّ، ذلك الكائن الغيبيّ الذي يراوح بين الخير والشر فينا.الاهتمام بتمثلات الجسد
تحمل أعماله نزوعا نحو الترميز والإيحاء المستوحى من « الأحلام » والخيال، لذلك تقع رسوماته غالبا في دائرة غير المألوف والممتع والمرعب معا، ناهيك عن الإحالة إلى الموضوعات الميثيولوجيّة بما هي مستودع ترميزي وعلاماتي تاريخيّ، لذلك فهو يطلق غالبا على لوحاته عناوين مثل « الأحلام » و »الأرواح » و »الطيور ». وتبدو المَشاهِد التي يصوّرها الفنّان في الغالب خارج المنطق الجسمانيّ المتعارف عليه، عبر استشراف مستمرّ لكائنات تشخيصيّة غريبة كالأفاعي الأنثويّة والطيور الملائكيّة والحشرات المسوخيّة والهيئات الشبحيّة.
يعمد وسام بن حسين إلى التقشّف المبالغ في الألوان مقابل الإطناب في التفاصيل المرسومة، فهو يقتصر غالبا على الرسم بالحبر الغامق وإضافة قيمة لونيّة واحدة تكون فاتحة أو شفافة. وتحتوي كلّ رسوماته على تركيبة مكرّرة من شخوص تتوسط القماشات مع اختلاف في عدد الكائنات والهيئات. وتبرز في الأجساد عناصر حسيّة إيروسيّة كثيرة كالأثداء النافرة والعيون الكبيرة والأفواه المفتوحة والأعضاء الحميمة المتوارية بين النباتات الطفيليّة. يجعلنا العمل في مواجهة الحواجز التي تبنيها الثقافة الجمعيّة، والتي شكلّت ذلك الوهم الجسديّ الذي يدور في فلك المحرّم والمنشود والمدنّس، وليس من الغريب أيضا، القول، أنّ كلّ واحد منا يُوجَد بينه وبين جسده كحاجز أبديّ.
تُنْبِؤنا تجربة وسام بن حسين التصويريّة أنّه لم يعد للجسد ذلك الوضع « ألطوطمي » الذي نُسجن فيه، وإنما تحوّل إلى أداة تجرح العلاقة التي تربطنا بأجسادنا وتكشفنا على عوراتنا، منها ما يتماهى مع الذكورة بوصفه « الظلّ »، كأنّما تصبّ جميعها في علاقة الأنثى بأنثويتها المبتورة، بينما تتحدّد الأجساد في كتلة واحدة وكأنّها جسد مركّب بأكثر من رأس. هناك تذكير من خلال التأكيد على تصوير الجسد بأن الجنس متغلغل في كل شيء، صار لكل شيء عورة أو كما يقول الباحث السوري إبراهيم محمود « عورة الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين والتاريخ واحدة، تتلخص في الخوف من الوقوع في فخ الإغواء: هدر القيم، فقدان الضبط، تلغيم التاريخ، تبديد المقدس، تمييع الثقافة ».
ولد وسام بن حسين سنة 1976 بمدينة منزل تميم بالوطن القبلي في تونس. تخرّج من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس سنة 2001، ودرّس لاحقا فنّ الرسم بالمعهد العالي للفنون والحرف بالقيروان. شارك في العديد من الاقامات الفنيّة التي ساعدته على تطوير عمله الإبداعي أهمّها الإقامة بحيّ الفنون بباريس لمدّة سنة كاملة. يقيم حاليا بفرنسا ويعرض أعماله بالعديد من الغاليريهات العالميّة بألمانيا واسبانيا والإمارات.
فنانة وناقدة تشكيلية تونسية